التوبيخ والنعمة - القديس أغسطينوس

 

(الأنا) أو (الذات البشرية) التي يتعبد لها أتباع بيلاجيوس دفعت بهم إلى رفض عمل النعمة في حياة الإنسان، فنادوا بأن عملها يقف عند غفران الخطايا السابقة دون أن يمتد إلى حياة الإنسان الحالية أو المقبلة. فالإنسان ( في نظرهم ) قادر دون مساندة النعمة أن يحفظ نفسه ويجاهد حتى يبلغ الأبدية باستحقاقاته البشرية.

هذه (الأنا) بعينها جرفتهم لقبول فكر مناقد لفكرهم السابق اللهم إلا في تضخيم الأنا وإشباع الذات البشرية... إذ قالوا بعدم أهمية التأديبات الكنسية بدعوى أن الكنيسة تؤمن بأن الفضائل جميعها بما فيها الطاعة والمثابرة هي نعمة من قبل الله، فمن ينحرف عن طريق الحق أي يحرم من هذه الفضائل لا نفع للتأديبات معه إنما يكتفي الرعاة بالوعظ والصلاة دون التوبيخ أو الانتهار، والنعمة قادرة على إنتشاله.
والتأديب في نظر الكنيسة لا يحمل إنكارًا لعمل النعمة, إنما هو حب صادر من قلب أو محبة تعمل بروح الرب الذي يؤدب أولاده (عب 6:12، 7), غايته أن يدرك الإبن خطأه فينسحق أمام الله متجاوبًا مع النعمة الإلهية التي تبكته وتسنده وتقوده حتى النهاية.
التأديب يفرز الذين يتجاوبون مع نعمة الله الذين يتقبلونه بالتوبة عن الذين يقاومون النعمة فيثورون على الكنيسة.
والتأديب لا يحرم النعمة مجانيتها لأنه ليس سدادًا لثمن الخطية ولا إيفاء دين بل هو إعلان عن محبة الكنيسة للخاطئ وبغضها لخطيته، لهذا يلزم في الراعي أثناء تأديبه أن يراعي :
1- أن يصدر من قلب أبوي مملوء رأفة ووداعة (1كو21:4).
2- أن يقدم حسب حالة الخاطئ وإمكانياته... ويقدم التأديب بصورة مرنة لا في شكل قانون صارم أو إلزام جاف.
3- يجب أن ينتهي التأديب بالتوبة المملوءة رجاء.
وأخيرًا فقد سجل لنا الأباء الأولون الكثير من إختبارتهم في هذا الشأن وقد سبق لنا نشر بعضها (1) .
المترجم
(1) راجع كتاب "الحب الرعوي" مقال: "حزمه في الرعاية"، ص 602 - 624.

النعمة والإرادة الحرة والتوبيخ
في نظر الكنيسة
1- مقدمة
أخي العزيز المحبوب فالنتين.
لقد قرأت رسالتك أنت وشركائك في خدمة الله, التي بعثتها محبتك(2) مع الأخ فلورس Florus والقادمين معه إلينا. وإنني أشكر الله إذ تلمست منها سلامكم في الرب, وإتفاقكم في الحق، وغيرتكم في الحب.
فبينما يجاهد العدو أن يتغلغل في وسطكم لتدمير بعضكم, إذ بمراحم الله وصلاحة العجيب يحولان خداعاته لخير عبيده. وبهذا لا ينجرف أحد إلى الشر بل بالعكس يتأسس البعض في الصلاح.
وإنني لا أجد هناك داعيًا لكي أطلب منكم أن تعيدوا دراسة ما قد أخبرتكم به بما في الكفاية في مقال طويل(3)، لأنني أدركت من إجابتكم كيف تقبلتم المقال. غير أنه (على أي الأحوال) لا تظنوا أنكم قد أستوعبتموه لمجرد قراءتكم له. 
(2) لقب مثل " سيادتك " أو " قداستك ".
(3) مقال " النعمة والإرادة الحرة " وقد سبق ترجمته وطبعه.
فإن أردتم أن يكون المقال مثمرًا على الدوام فلا تملوا من إعادة دراسته إلى أن يصير مألوفًا لكم...
2- نظرة الكنيسة إلى الناموس والنعمة والإرادة
لا يكشف لنا الرب فقط ما هو الشر الذي يلزمنا تجنبه وما هو الخير الذي يجدر بنا تنفيذه الأمر الذي توضحه حرفية الناموس، وإنما أيضًا يعيننا في ترك الشر وصنع الخير، الأمر الذي لا يقدر أحد أن يفعله بغير روح النعمة. إذ بدون النعمة يصيرنا الناموس عاصين فنهلك. لهذا يقول الرسول " لأن الحرف يقتل لكن الروح يحيي " 2كو 6:3.
فمن يستخدم الناموس كما ينبغي يتعلم منه ما هو الشر وما هو الخير، ولا يثق في قوته الذاتية فيهرب إلى النعمة التي بعونها يحيد عن الشر ويفعل الخير.
من هو هذا الذي يهرب إلى النعمة إلا الذي قيل عنه " من قبل الرب تتثبت خطوات الإنسان وفي طريقه يُسر ؟! " مز 23:37.
وهكذا فإن الرغبة في معونة النعمة هي بداية النعمة... وهنا تعترف بحرية الاختيار في صنع الشر أو الخير. أما من جهة فعل الشر فإن كل إنسان هو حر عن البر وعبد للخطية. وأما بخصوص عمل الخير فلا يقدر أحد أن يتحرر ما لم يحرره ذاك القائل " إن حرركم الأبن فبالحقيقة تكونون أحرارًا " يو 36:8.
كذلك ليس الأمر هكذا بمعنى أن الإنسان عندما يتحرر من سلطان الخطية لا يعود يحتاج إلى عون مخلصه، بل بالحري يسمع منه "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" يو 5:15.
إنني أبتهج إذ أجد في أخينا فلورس Florus هذا الإيمان الذي هو بلا شك إيمان حقيقي نبوي رسولي جامعي. وأما من لا يفهمونه فيليق بهم أن ينصلحوا وذلك بفضل الله...
3- أهمية النعمة الالهية
 يليق بنا أن نفهم نعمة الله خلال يسوع المسيح ربنا هكذا : أنه بنعمة الله يتخلص الإنسان من الشر، وبدونها لا يستطيع قط أن يصنع أي أمر صالح، سواء من جهة الفكر أو الإرادة أو العاطفة أو العمل فبالكشف الذي للنعمة يتعرف الإنسان على ما ينبغي عليه فعله، وبامكانياتها يقوم بتنفيذ ما عرفه بمحبة ( أي بالنعمة تصير له رغبة صالحة وتنفيذ عملي صالح ).
لقد سأل الرسول هذه العطية التي للإرادة الصالحة والعمل الصالح لأولئك الذين حدثهم قائلاً "أصلي إلى الله أنكم لا تعملون شيئًا رديًا ليس لكي نظهر نحن مزكين بل لكي تصنعوا أنتم حسنًا" 2كو7:13.
من يقدر أن يسمع هذا ولا يتيقظ معترفًا أننا من الله ننال تحولنا عن الشر وفعلنا للخير، إذ لا يقول " ننصحكم أو نعلمكم أو نحثكم أو ننتهركم " بل " أصلي إلى الله أنكم لا تعملون شيئًا رديًا... بل لكي تصنعوا انتم حسنًا ". ومع هذا فقد أعتاد ان يفعل هذه الأمور معهم أي ينصحهم ويعلمهم ويحثهم وينتهرهم. لكنه يعلم تمامًا أن هذه الأمور جميعها بمثابة غرس للزرع أو إرواء له، وهذا لا قيمة له ما لم يستجيب الله لصلاته عنهم، هذا الإله الذي يهب الثمار بطريقة سرية. وكما يقول معلم الأمم نفسه " إذ ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي ينمي "1كو 7:3.
4- أولاد الله ينقادون بروح الله
 لا ينخدع أولئك الذين يتساءلون قائلين: ما الحاجة لتبشيرنا أن نحيد عن الشر ونفعل الخير ما دمنا لسنا نحن العملين بل "الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا ؟" في 3:2.
بالحري يجدر بهم أن يفهموا أنهم إن كانوا أبناء الله فبروح الله ينقادون (رو 14:8) ليفعلوا ما ينبغي فعله. وعندما يفعلون هذا يقدمون الشكر لله الذي به فعلوا... وهذا لا يعني أنهم لا يفعلون شيئًا ( أي لا نحرمهم من نسبة أعمالهم إليهم ).
أضف إلى هذا أن الله يكشف لهم ما ينبغي عليهم عمله، حتى متى فعلوه أي بالحب وبهجة البرّ، يفرحون متقبلين العذوبة التي يهيبها الله لكي تعطى أرضهم غلتها مز 12:85. أما إذا لم يفعلوا سواء بعدم العمل نهائيًا أو العمل بغير حب، فيجدر بهم أن يصلوا لكي ينالوا ما لم يفعلوا بعد، لأنه أي شئ يكون لهم ما لم يأخذوا ؟‍...
5- النعمة والتوبيخ
يقولون : إذن ليت الذين لهم سلطان علينا لا يوبخوننا ولا يلوموننا على ما لا نفعله إنما يكتفون بأن يوصونا بما يلزم فعله والصلاة عنا لكي نفعله.
الرد : ليفعل ( من لهم سلطان ) هذا كله مادام الرسل قد أعتادوا فعله، إذ كانوا يوصون بما يلزم عمله ويوبخوا متى لم يُفعل ويصلوا لكي ما يُفعل.
مثال: فالرسول يأمر قائلا " لتصر كل أموركم في محبة" (1 كو 14:16).
كما يوبخ قائلا "والآن فيكم عيب مطلقًا لأن عندكم محاكمات بعضكم مع بعض. لماذا لا تظلمون وتسلبون وذلك للإخوة ؟! أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟! " 1كو 7:6.
لنسمعه أيضًا مصليًا قائلا " والرب ينميكم ويذيدكم في المحبة بعضكم لبعض وللجميع " 1تس 12:3.
إنه يوصي بأن تقام المحبة، ويوبخ بسبب عدم وجودها، ويصلي لكي ما تزداد.
يا إنسان تعلم من وصيته ما ينبغي أن تكون عليه !
وتعلم من توبيخه فتترك خطأك !
وتعلم بصلاته لكي تنال ما ترغب فيه !

الاعتراض الاول

لماذا يوبخ الإنسان على شيءٍ لم ينله؟!
6- يقول (4) : “ كيف ينسب الخظأ إليَّ مادمت لا أملك ما لم أخذه (من خير) من الله؟! فإذ لم يعطيني إياه فأنا لا أملكه بالمرة بينما كان يمكن أن تكون لي هذه العطية العظمى “.
إحتملوني يا أخوتي ليس كمن هو ضدكم يا من قلبكم مستقيم مع الله، إنما أضاد الذين ينشغلون بالامور الزمنية أو يفكرون بطريقة بشرية، ممتدحًا الحق الذي للنعمة الإلهية السماوية.
فإذ هم يقولون بهذا إنما لإنهم في شرهم لا يرغبون في التوبيخ. يقول " أوصيني بما أفعله فإن فعلته أشكر الله الذي وهبني تنفيذه، وإن لم افعله فلا توبخني بل توسل إلى الله ليهبني ما لم يعطيني إياه بعد"، أي يهبني محبة الله الإيمانية ومحبة قريبي الأمرين اللذين بهما تحفظ وصاياه. صل من اجلي لكي أتقبلها " المحبة "، وبها أنفذ أوامر الله بحرية وبإرادة صالحة.
كان يجدر أن أوبخ لو أنني لم أفعل هذا بسبب خطأي الشخصي، أي لو كنت أستطيع بنفسي أن أهبه لنفسي أو أخذه من عندياتي ومع

(4) البيلاجي المعترض.
ذلك لم أفعل. أو لو كان الله يلزمني بالأخذ وأنا لم أرغب في تقبله. ولكن مادامت حتى الإرادة ذاتها يعدها الله فلماذا تنتهرني حين تراني لا أريد فعل وصاياه، بينما كان بالحري أن تسأل الله نفسه لكي يهبني الإرادة أيضًا ؟! “.
أولا : التوبيخ يدفعنا لطلب الله ليعمل فينا
نجيب على هذا فنقول : من كان لديكم من لا ينفذ وصايا الله المعروفة لديه فلا ولا يريد أن يُلام، فإن عدم رغبته في الأنتهار دافعه عدم قبول أفتضاح خطاياه أمام عينه.
إنه لا يريدها أن تمس مع أن مثل هذا الألم “ النابع من اللوم “ يبعث فيه الرغبة في البحث عن الطبيب.
إنك لا تريد أن تنكشف على نفسك لتراها مشوهة فترغب في المصلح وتطلبونة كي لا تبقى هكذا في البشاعة.
إنه خطأك أنت أيها الشرير، وما هو أشر أنك لا تريد التوبيخ على شرك كما لو كانت الأخطاء بالحري تمتدح أو يُنظر إليها بغير مبالاة لا تستحق المدح ولا اللوم، أو كما لو كان تخويف المنتهر أو فضحه أو إماتته هذه كلها أمور باطلة مع أنها تهب حافذًا مفيدًا لطلب ذاك الصلح " الله "، فيخرج من الأشرار المنتهرين أناسًا صالحين مستحقين المديح.
ماذا يرغب منا ذاك الذي لا يريد التوبيخ قائلا "بالحري صلوا لأجلي ؟! ".
إنه يجدر أن ينتهر لنفس السبب " رفضه الإنتهار " حتى ينتهر نفسه بنفسه.
وإذ يشعر بتأنيب الإنتهار تثور فيه خلال الإماتة النابعة عن سخطه على نفسه رغبة حارة في الصلاة، فتعينه مراحم الله ليزداد في الحب ويمتنع عن الأمور الملومة المخجلة صانعًا الأمور المبهجة المستحقة للمديح.
هذا هو نفع الإنتهار الذي يطبق بطريقة سليمة، الذي يكون عنيفًا تارة وأقل عنفًا تارة أخرى وذلك حسب نوع الخطايا.
ويصير هذا نافعًا عندما يهتم بها الطبيب العلى.لأنه لا نفع للإنتهار ما لم يدفع الإنسان نحو التوبة. ومن الذي يهب هذه التوبة إلا ذاك الذي تطلع إلى الرسول بطرس عندما أنكره، وجعله يبكي ؟!
لهذا عندما طلب الرسول بضرورة إنتهار المقاومين بإعتدال أردف للحال "عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق فيستفيقوا من فخ إبليس " 2تي 26,25:2.

الاعتراض الثاني

لماذا يوبخ الإنسان
وهو لم ينل نعمة الطاعة؟

9- يقولون : يقول الرسول " لأنه من يميزك ؟ وأي شئ لك لم تأخذه ؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟! "1كو7:4. فلماذا نوبخ ونلوم وننتهر ونتهم إذ كيف نعمل ما لم نأخذه"الطاعة"؟!
يرغب القائلون بهذا أن يظهروا بلا لوم في عصيانهم لله، إذ الطاعة الأكيدة هي نفسها عطية الله, وهذه العطية يلزم بالضرورة أن توجد فيمن يسكنه الحب الذي هو بلا شك من الله 1يو 7:4، يهبه الأب لأولاده.
يقولون أننا لم نأخذ هذا فلماذا نويخ كما لو كنا قادرين على الأخذ من أنفسنا وبمحض أختيارنا ونحن الذين رفضنا ؟
الرد : أولاً : بالنسبة للذين لم يتجددوا " بالمعمودية " إلى الآن فإنه بتوبيخهم عن عدم طاعتهم لله يصيرون غير راضين عن أنفسهم. فإذ خلق الله الإنسان من البداية مستقيمًا...فإن الفساد الأول الذي خلاله عصي الإنسان الله جاء من الإنسان نفسه بسقوطه بإرادته عن الإستقامة التي خلقه الله عيها في البداية، وبهذا صار فاسدًا.
أفلا ينتهر هذا الفساد في الإنسان لمجرد عموميته في الجنس البشري؟!... كلا ! لينتهر هذا الفساد العام أيضًا في الأفراد، لأن عدم وجود لإنسان متحرر منه ليس سببًا يمنع إنتهارهم.
حقًا إن هذه الخطية الأصلية يمكن أن يقال عنها أنها خطية الغير إذ صار إليها الإنسان خلال والديه, لكن هذا لا ينفي نسبتها إلينا أيضًا إذ يقول الرسول " الجميع أخطأوا " رو 23:3.
إذن لينتهر ذاك المصدر المستحق للعنة,حتى أنه خلال الأماتة التي للأنتهار تصير الأرادة في التجديد، وذلك متى كان المنتهر ؟إبن الموعد، فإذ يكون الأنتهار والتعنيف من الخارج يعمل الله في الداخل لكي يريد.
ثانيًا : أما بالنسبة للذي تجدد فعلاً وتبرر غير انه عاد فإرتد إلى حياة شريرة، فإن مثل هذا لا يقدر أن يقول" أنا لم أخذ " لأنه قَبِلَ الشر بحرية أختياره وفقد نعمة الله التي أخذها.
فخلال التأنيب النابع عن التوبيخ يبكي بكاءً نافعًا ويعود إلى أعمال صالحة، أو بالحري يظهر نفع التوبيخ بأكثر وضوح.
ومع هذا فلكي ينفع الإنتهار فيلزم الاعتماد على الله كلية...

الأعتراض الثالث

لماذا يوبخ الإنسان
وهو لم ينل نعمة المثابرة ؟
10- أما يرغب في التوبيخ ذاك الذي يحتج قائلاً " ماذا أفعل إنني لم أخذ ؟! " متى ظهر بوضوح أنه أخذ لكنه بخطئه يفقد ما أخذه ؟
يقول : " أنني أخذت الإيمان الذي يعمل بالمحبة, لكنني أخذ " المثابرة حتى النهاية! " هل يجسر أحد ويقول أن هذه المثابرة ليست عطية من الله ؟ فلو أن شيئًا عظيمًا كهذه يحصل عليها الإنسان من نفسه ما كان الرسول يقول " أي شئ لك لم تأخذه ؟ " إذ له هذه المثابرة كما لو كان لم يأخذها !
الرد : إننا بالحقيقة لا نقدر أن ننكر أن المثابرة في الصلاح أو التقدم إلى النهاية هو أيضًا عطية عظيمة من الله، إذ لا تكون لنا ما لم توهب لنا من ذاك الذي قيل عنه " كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من فوق عند أبي الأنوار " يع 17:1.
ومع هذا فلا يمكننا أن نتجاهل أهمية غير المثابرين " عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق فيستفيقوا من فخ إبليس " 2تي 26,25:2, إذ قدم الرسول هذا القرار بسبب نفع الإنتهار قائلاً كما سبق أن أشرت " مؤدبًا بالوداعة المقاومين عسى أن يعطيهم الله توبة ".
فإن كنا نقول أن مثل هذه المثابرة هكذا هي ممدوحة وهكذا هي مطوّبة بطريقة يفهم منها أنها ليست من الله, فإننا بهذا نُحرم مما قاله الرب لبطرس " ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك " لو 32:22 لأنه ماذا طلب من أجله سوى أن يثابر إلى النهاية ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
فلو كان في إمكانية الإنسان أن ينال المثابرة من بشر لما كان يطلبها من الله. فإذ يقول الرسول " أصلي إلى الله أنكم لا تعملون شيئًا رديًا " 2كو 7:13، ماذا يطلب من الله إلا أن يهبهم المثابرة، لأنه “لا تعملون شيئًا رديًا “ لا تخص من يطلب الصلاح دون أن يثابر فيه مرتدًا إلى العمل الردئ الذي كان يليق به أن يتركه ؟‍
كذلك يقول الرسول " أشكر إلهي عند كل ذكرى إياكم دائمًا في كل أدعيتي مقدمًا الطلبة لأجل جميعكم بفرح بسبب مشاركتكم في الأنجيل من أول يوم إلى الأن, واثقًا بهذا عينه أن الذي أبتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمل إلى يوم يسوع المسيح " كو 12:4. بماذا يعدهم به من قبل مراحم الله سوى المثابرة في الخير إلى النهاية ؟‍
أيضًا حيث يقول " يسلم عليكم أبفراس الذي هو منكم عبد للمسيح مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات لكي تثبتوا كاملين وممتلئين في كل مشيئة الله " كو 12:4، ماذا يعني بقوله " لكي تثبتوا " إلا " لكي تثابروا " ؟‍‍ إذ قيل عن الشيطان أنه " لم يثبت في الحق " يو 44:8 إذ كان فيه لكنه لم يستمر فيه...
وعندما نصلي من أجل من هو قائم أن يبقى قائمًا ماذا نطلب سوى المثابرة؟‍
كذلك عندما يقول الرسول يهوذا " القادر أن يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الأبتهاج " أما يعلن بوضوح أن المثابرة في الصلاح هو عطية إلهية ؟ لأنه ماذا يعني الذي " يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده في الأبتهاج " يه 24 سوى المثابرة الصالحة التي يهبها الله ؟
وما هو هذا الذي نقرأه أيضًا في سفر أعمال الرسل " فلما سمع الأمم ذلك كانوا يفرحون ويمجدون كلمة الرب وآمن جميع الذين كانوا معينين للحياة الأبدية " أع 48:13 ؟ من يمكن أن يكون
" معينًا للحياة الأبدية " إلا بواسطة عطية المثابرة ؟ إذ عندما نقرأ
" الذي يصبر
(يثابر) إلى النهاية فهذا يخلص " مت 22:10، أي خلاص هذا يعني سوى الحياة الأبدية ؟
وعندما نطلب في الصلاة الربانية من الله الآب قائلين " ليتقدس أسمك " مت 9:6، ماذا نسأل سوى أن يتقدس أسمه فينا ؟‍ وإذ يتم ذلك بواسطة جرن التجديد " المعمودية " لماذا يسألها المؤمنون يوميًا إلا لأنهم يثابرون فيما هو فيهم فعلاً ؟ وقد فهم الطوباوي كبريانوس هذا هكذا كما جاء في شرحه للصلاة عينها (5) قائلاً "... أننا نسأل نحن الذين تقدسنا في المعمودية متوسلين أن نثابر فيما قد بدأنا فيه ".
تأملوا هذا الفكر الذي نادى به هذا الشهيد العظيم، إذ يرى في كلمات السيد المسيح هذه أن يلتزم المؤمنون بالصلاة كل يوم ليثابروا فيما قد بدأوا فيه.
إذًا الأمر الذي لا شك فيه أن من يترجي الرب لكي يهبه المثابرة في الخير يعترف بأن المثابرة هي هبة من الله.
11- المثابرة كهبة من الله لا يعفينا من المسئولية
ومع أن الأمر هكذا إلا أننا ننتهر الذين كانوا يسلكون حسنًا ولم يثابروا فيه، ويحسب إنتهارنا مُحقًا، لأن بإختيارهم إنحرفوا عن الحياة الصالحة إلى الحياة الشريرة, فصاروا مستحقين للتوبيخ.
فإذا لم ينتفعوا من الإنتهار وظلوا في عدم مثابرتهم سالكين في حياتهم المهلكة إلى الموت، فسيستحقون الدينونة الإلهية إلى الأبد.

(5) راجعA.N. Fathers V.5.P.450
وليس لهؤلاء أن يعتذروا قائلين ما يرددونه اليوم " لماذا نُدان على تحولنا من الخير إلى الشر ونحن لم نأخذ المثابرة التي بها نقطن في الصلاح ؟ "
 فإن مثل هذا الاعتذار لن يعتقهم من اللوم العادل. لأن إن كان يحسب كلمة الحق لا ينعتق من الدينونة التي صارت خلال آدم إلا الذين يؤمنون بيسوع المسيح، مع أنهم قادرون أن يحتجوا بأنهم لم يسمعوا عن إنجيل المسيح...فكيف يحتج هؤلاء بقولهم أننا لم نأخذ المثابرة ؟
فإن إحتجاج القائلين " نحن لم نسمع " يبدوا أكثر إنصافًا من القائلين " نحن لم ننل المثابرة "، إذ يُقال للآخرين " يا إنسان كان يليق- إن أردت – أن تثابر فيما قد سمعت وحفظت " الأمر الذي لا يُقال الأولين " فيما لم تسمعه كان يمكن أن تؤمن إن أردت " ‍‍
12- سقوط فئة غير المثابرين تحت الدينونة‍
تبعًا لهذا فإن كل من :
الذين لم يسمعوا الإنجيل,
والذين سمعوه وصاروا إلى حال أفضل لكنهم لم يتقبلوا المثابرة,
والذين سمعوه لكنهم رفضوا المجئ إلى المسيح, أي رفضوا الإيمان به حيث قيل " لا يقدر أحد أن يأتي إلي إن لم يُعط من أبي" يو65:6.
 والذين لم يتقبلوا جرن التجديد الوحيد وماتوا وهم بعد في سنهم الصغير عاجزين عن الإيمان إذ كان يلزمهم أن ينحلوا عن الخطية الأصلية " الجدية " بواسطة هذا الجرن.
هؤلاء جميعًا لا يختلفون عن بعضهم من جهة كونهم جماعة مدانة، إذ ينقاد جميعهم إلى الدينونة.
أما البعض فيتميزون عنهم، لا باستحقاقتهم الذاتية بل بنعمة المخلص، أي يتبررون مجاناّ في دم آدم الثاني. لهذا نسمع " من يميزك ؟‍ وأي شئ لك لم تأخذه ؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ ؟ ".
يجدر بنا أن نفهم أنه لا يقدر أحد أن يتميز عن تلك الكتلة التي للهلاك التي نبعت عن آدم الأول إلا الذي له هذه العطية التي تقبلها بنعمة المخلص.
هكذا عظيمة هي هذه الشهادة الرسولية حتى وضعها الطوباوي كبريانوس في كتابته إلى كيورينوس Quirinus تحت عنوان قائلا " يلزمنا ألا نفتخر في شئ مادام ليس لنا شئ من ذواتنا " (6)

(6) راجع كبريانوس : الشهادات ك 3 ف 4 مجموعة كتابات آباء ما قبل نيقية مجلد 8 ص 528-533.
13- إذن أولئك الذين تميزوا عن الدينونة الأصلية بمثل هذا الفيض من النعمة الإلهية يشترط فيهم بلا شك أن يكونوا قد سمعوا الإنجيل، وبسماعهم له آمنوا به، وفي إيمانهم العامل بالمحبة يثابرون إلى النهاية. فإذا ما حدث أن ضلوا الطريق فبإنتهارهم ينصلحوا بالرغم من أن البعض يرحبون إلى الطريق الذي تركوه دون أن يوبخهم أحد (7) ...
____________
(7) تعرض أغسطينوس بعد ذلك إلى موضوع " الأختيار "، وإذ كان البيلاجيون يؤمنون بالذات البشرية ويرفضون أدنى تدخل للنعمة الإلهية في حياة الإنسان وجهاده ومثابرته ونواله الإكليل قائلين أن عمل النعمة ينحصر فلي غفران الخطايا السابقة والكشف عن مفهوم الوصايا وبعد ذلك تترك الإنسان ليفعل ما يريد بقوته الذاتية... الأمر الذي جعل أغسطينوس يتعرض لموضوع النعمة والأختيار بصورة قوية حتى أنه من كثرة حديثه عن الأختيار الإلهي دون التعرض لحرية الإرادة في كتاباته ضد البيلاجيون وليس في كل كتاباته، ظن البعض أن أغسطينوس ينادي بالجبر والإلزام وأنه ليس للإنسان إرادة حرة أن يقبل وأن يفعل ويشترك في العمل بل وظنوا أنه يتجاهل =
20- المثابرة تكشف تلاميذ الله الحقيقيين
" بعدما تحدث عن الأختيار موضحًا أن أولاد الله الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، هؤلاء دعاهم وبررهم ومجدهم" رو 38:8-30.. هؤلاء لن يهلك منهم أحد، عاد لؤكد ضرورة المثابرة التي تميز في النهاية حياة الإنسان أولاد الله الحقيقيين من غيرهم إذ يقول " :
______________
= الأعمال لهذا أسرع فكتب مقالا عن " النعمة والإرادة الحرة " تحدث فيه عن أهمية الإرادة الحرة وعدم تعارضها مع عمل نعمة الله، أهمية الأعمال وتلازمها مع الإيمان كما جاء في مقدمة مقاله وقد سبق أن قمت بترجمة هذا المقال وطبعه، لهذا أرجو الرجوع إليه.
وإنني إذ لم أترجم البنود 14-19, فذلك خشية أن يسقط البعض فيما سقط فيه بعض معاصري أغسطينوس بسبب تركيزه الشديد على الأختيار وذلك كرد فعل عنيف للهرطقة البيلاجية التي أفقدت الخلاص قوته وفاعليته في نظر الناس، وقد كادت أن تتغلغل في نفوس الكثيرين.
ولكي لا فقد المقال تسلسله نذكر ملخصًا لما ورد في هذه البنود وهو :
أ- الله يعرف مختاريه ويحفظهم، وإن أنحرفوا يردهم، لكن ليس كل المدعوين مختارون " مت 16:20 "
ب- إختيار المختارين قائم على سابق معرفة الله "رو 28:8-30 ".
ج- إختيار المختارين لا يفقدهم حرية إرادتهم بل يهبهم إرادة حرة صالحة.
د- حفظ الله للمختارين يدفعنا لتأديب المنحرفين إذ يستخدم الله التأديب لردهم.
أخيرًا فإن المخلص نفسه يقول " إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي " يو 31:8.
فهل يحسب يهوذا من بين تلاميذه مادام لم يثبت في كلامه ؟!
هل يحسبون من تلاميذه أولئك الذين حدثهم الإنجيل بهذه الطريقة وذلك عندما أوصاهم الرب بخصوص جسده أن يؤكل ودمه أن يشرب إذ يقول الإنجيل :" قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفر ناحوم فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا أن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يسمعه ؟! فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهم أهذا يعثركم ؟! فإن رأيتم إبن الإنسان صاعدًا إلى حيث كان أولاً ؟! الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئًا. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة. ولكن منكم قوم لا يؤمنون لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ؟ ومن هو الذي يسلمه ؟ فقال لهذا قلت لكم أنه لا يقدر أحد ان يأتي إلي إن لم يعط من ابي " يو 59:6-66.
ألم يلقبهم الإنجيل " تلاميذ " ؟ ومع هذا لم يكونوا تلاميذ حقيقيين لأنهم لم يثبتوا في كلمته، وذلك كقوله " إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلا ميذي " يو 31:8، فإذ لهم المثابرة بكونهم ليسوا تلاميذ حقيقيين, فإنهم ليسوا أبناء حقيقيين حتى وإن ظهروا هكذا أو دُعوا هكذا.
إذن نحن ندعو الناس " مختارين " و" تلاميذ المسيح " و" أولاد الله " لأنهم هكذا يدعون إذ يتجددون " بالمعمودية " ونراهم يعيشون بتقوى، ولكن هذا يصير حقيقة إذا ثبتوا فيما دعوا فيه...
23- الله يهب محبيه المثابرة
عندما قال الرسول " نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله " عالمًا أن البعض يحبون الله لكنهم لا يثابرون في هذا الطريق الصالح حتى النهاية، لهذا أردف قائلا " الذين هم مدعوون حسب قصده " رو 28:8. إذ في حبهم لله يثبتون حتى النهاية، لكنهم أحيانًا يضلون الطريق فيرجعون حتى يثبتوا للنهاية فيما قد بدأوا فيه من الصلاح.
ولكي يتكشف لنا مذا يعني بقوله " المدعوون حسب قصده " أضاف ما سبق أن أشرت إليه " لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة إبنه ليكون هو بكرا بين أخوة كثيرين. والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا " حسب قصده "والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا " رو 30,29:8.
كل هذه الأمور حدثت فعلاً. أنه سبق فعرفهم فعينهم ودعاهم وبررهم.
الجميع ( المختارين فعلاً ) سبق فعرفهم وسبق فعينهم.
كثيرون دعوا فعلاً وتبرروا ومن يبقى إلى النهاية فهؤلاء " مجدهم أيضًا " وهذا لم يتم بعد.
وبالرغم من أن هذين الأمرين أي أنه دعاهم وبررهم لم يتحققا بعد في كل من قيل عنهم إلا أنه لا يزال يوجد كثيرون إلى نهاية العالم سيدعون وسيتبررون. وقد أستخدم صيغة الماضي ـ حتى بالنسبة للأمور المقبلة ـ كما لو كان الله قد سبق فأعدها منذ الأزل.
إذًا كل من سبق الله فعرفهم فعينهم وبررهم ومجدهم، أقول ليس فقط الذين لم يولدوا بعد الميلاد الثاني " بالمعمودية " بل والذين حتى لم يولدوا بعد " أي الأجيال المقبلة " هؤلاء هم أبناء الله ومطلقًا لا يهلكون " كمعرفته السابقة ".
حقًا هؤلاء آتوا إلي المسيح. وهكذا يأتون كما يقول المسيح نفسه "كل ما يعطيني الآب فإليّ يقبل ومن يقبل إليّ لا أخرجه خارجًا " يو 37:6. وكما يقول بعد هذا بقليل " هذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئًا " يو 39:6، فمنه توهب المثابرة في الصلاح حتى النهاية...
24- فمثل هؤلاء الذين يحبونه يشترك الله معهم في العمل ليحول كل الأمور للخير... كل الأمور حتى إنحرافهم عن الطريق يحوله للخير " للذين يحبونه " إذ يعودون أكثر انسحاقًا وأعمق تعلمًا. إذ يدركون أنه يليق بهم أن يسلكوا في الحياة المستقيمة فرحين برعدة, غير معجبين بأنفسهم ولا معتدين بذواتهم كما لو كان ذلك بقوتهم الشخصية، وبهذا لا يقولون في إعتداد " لا أتزعزع إلى الأبد " مز6:30.
من أجل هذا قيل لهم " إعبدوا الرب بخوف وإهتفوا برعدة لئلا يغضب الرب فتضلوا عن طريق الحق ".. وماذا يعني هذا سوى أنه يليق بالسالكين في طريق الحق أن يضعوا في ذهنهم أن يعبدوا الله بخوف، أي " غير مهتمين بالأمور العالية بل منقادين إلى المتضعين " رو16:12.
ليفرحوا في الرب، لكن برعدة ! لا يفتخروا في شيء، لأن ليس لهم شيء من ذواتهم بل من يفتخر فليفتخر في الرب، لئلا يضل عن طريق الحق الذي بدأ فعلاً السلوك فيه . . .
وقد استخدم الرسول بولس نفس الكلمات قائلاً " تمموا خلاصكم بخوف ورعدة “في2 : 12، معللاً ذلك بأن " الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته الصالحةHis good pleasure " في 2 : 13، فالذي يقال في إعتداده بذاته " لا أتزعزع إلى الأبد " كان بلا خوف ولا رعدة. لكنه كإبن للموعد وليس ابن هلاك إختبر في ابتعاده عن الله ما قاله ".. حجبت وجهك فصرت مرتاعًا" مز 30 : 7.
أنظروا كيف تعلم أكثر وإزداد إتضاعًا.. لقد صار مرتاعًا حتى وجد نفسه ! وإذ صار في إتضاع ذهن لم يتعلم عن الحياة الأبدية فحسب بل وعرف التغيير التقوي والمثابرة في الحياة التي في رجائها يلزم أن يثبت.
هذا ما حدث أيضًا مع الرسول بطرس، ففي طمأنينته قال " إني أضع نفسي عنك " يو 13 : 37، ناسبًا إلى نفسه الغيرة التي سينالها من ربه. لكن الرب حجب وجهه عنه فصار مرتاعًا حتى أنه من رعبته من الموت عنه انكره ثلاث مرات. وماذا يعني " فإلتفت الرب ونظر إلى بطرس " لو 22 : 61، سوى أنه أعاد إليه وجهه بعد قليل بعدما كان قد حجبه عنه ؟!
لقد صار مرتاعًا فتعلم إلا يعتد بذاته، وبهذا حول الرب حتى هذا الأمر لخيره، هذا الذي يشترك في العمل محولاً كل الأمور لخير اللذين يحبونه..
25- إذن ليته لا يقل أحد أنه يلزم عدم توبيخ أحد عند إنرافه عن طريق الحق مكتفيًا بالطلب من الله أن يهبه الرجوع والمثابرة. فإن مثل هذا القول لا ينطق به مؤمن ! فإن كان الذي يتوبخ مدعوًا من الله حسب قصده فسيشترك الله في العمل ليعمل من التوبيخ خيرًا له.
أما معرفة عما إذا كان الشخص مدعو أم لا (فهذا ليس لنا أن نعرفه) . . . إنما يلزم التوبيخ بحب صانعين ما ينبغي عمله (8).
حول نعمة المثابرة (9).
أثار البيلاجيون هذا التساؤل : " مادامت المثابرة - في إيمان الكنيسة - هبة إلهية، فهل وهبها الله لآدم ؟ فإن كان قد وهبها لماذا أخطأ آدم ولم يثابر في الصلاح الذي كان فيه ؟ وإذ ان لم يهبها له فما ذنب آدم مادام ليست له هذه النعمة ؟
أجاب أغسطينوس على هذا التساؤل باستطالة، الأمر الذي جعلني أكتفي بعرض ملخص له مع كثير من التصرف.

(8) لا نريد تكرار حرية إرادة الإنسان أن يقبل أو يرفض التوبيخ الصادر من الكنيسة. . .
(9) للمترجم.
1- نال آدم نعمة المثابرة من نوع مغاير لما نناله حاليًا. فإذ لم يكن آدم يئن من صراع بين شهوة الجسد وشهوة الروح لذلك كانت له
" نعمة مثابرة " كنعمة المثابرة التي للملائكة وهي تسند المخلوق ليفعل الخير إن أراد، أي تهبه قوة ألا يخطئ، لكنها لا تعطيه عدم قدرة عن أن يخطئ، إذ ليست له معرفة بالخطية.
2- إن ثبت المخلوق في هذه النعمة كان له أن ينال نعمة أعظم وهي أنه لا يقدر أن يخطئ - وهذه مكأفاة ينالها المخلوق من الله إذ تصير له إرادة الله القادرة على الخير لكنها لا تقدر أن تخطئ إذ ليس هذا من طبها.
وكما يرى اغسطينوس أن الملائكة الذين سقطوا في النعمة الأولى بحرية إرادتهم فقدوا نوال الثانية. أما الذين ثبتوا فنالوا الثانية ولهذا فإن الملائكة الحاليين صاروا في نظر أغسطينوس عاجزين عن السقوط، الأمر الذي خسره آدم.
وهنا يميز أغسطينوس بين حريتين :
1- حرية أقل وهي أن المخلوق يقدر ألا يخطئ، لكنه إن أراد أن يخطئ يسقط.
2- حرية أعظم هي أن المخلوق تصير له إرادة خالقه وفكر خالقه، فيصير بقدر ثباته في الرب عاجزًا عن أن يخطئ. . . وهذه توهب
للإنسان بالكمال في الأبدية.
وهذا هو غاية التجسد فباتحاد اللاهوت بالناسوت وُهب للطبيعة البشرية في شخص المسيح نعمة، ليست شيئًا خارجًا عن الله، بل وهبتنا الابن الكلمة، الرب يسوع ذاته، نعمة للمؤمنين.
بهذه النعمة يصير الإنسان في المعمودية - خلال اتاده بالمسيح - ابنًا لله، فيصير له فكر المسيح وارادته وتصرفاته الذي لا يقدر أن يخطئ. من أجل هذا يقول الحبيب : " أولاد الله لا يخطئون" . وهذا هو كمال حرية البنوة. هذا بقدر ما يثبت الإنسان في المسيح ثبوتًا عمليًا، إذ تصير له حرية من نوع سامٍ سماوي قدر ما ينحني خاضعًا لفكر المسيح.
لا نفهم من هذا أن كل من اعتمد لن يخطئ ولا كل من سلط بالروح لن يخطئ. فمتى أراد الإنسان أن يفلت من يد الله يسقط حتمًا.. وإن كان الله لا يتركه سريعًا..
أخيرًا يحذرنا القديس من الاعتداد بأنفسنا إذ ظننا أننا لن نخطئ، مطالبًا الكنيسة أن تؤدب الذين كانوا قبلاً في الإيمان وانحرفوا. كن لتؤدب في محبة من أجل توبتهم دون أن تستخدم وسائل عنيفة زمنية.
+        +        +
أحدث أقدم