الصلاة الربانية للمستعدين للعماد - القديس أغسطينوس


الإيمان يسبق الصلاة
الترتيب الموضوع لكم هو لبنيانكم، إذ يطلب منكم  أن تتعلَّموا أولاً ما تؤمنون به (قانون الإيمان)، ثم بعد ذلك تسألون الله وتدعونه (الصلاة الربانيَّة). فيقول الرسول: "لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص" (رو ١٠: ١٢. انظر يؤ ٢: ٣٢).
هذا النص اقتبسه الرسول بولس الطوباوي من يوئيل النبي الذي تنبَّأ عن هذه الأيَّام التي دعا فيها الله كل البشر. وقد أضاف الرسول: "فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟" لهذا أرسل المبشِّرين يكرزون بالمسيح. إذ سمعهم الناس آمنوا، وبإيمانهم دعوا الله، لهذا تعلَّمتم أولاً ما تؤمنون به (أي قانون الإيمان) واليوم تتعلَّمون أن تدعوا ذاك الذي تؤمنون به.
لقد تعلَّمتم قانون الإيمان الذي يحوي موجزًا مختصرًا لقواعد إيمانكم السامية، موجزًا من جهة الألفاظ، وساميًا من جهة محتوياته. وأما الصلاة الربانيَّة التي تتسلَّمونها الآن فلتتعلَّموها بقلوبكم، ولتكرِّروها في الثمانية أيَّام، فكما سمعتم في الإنجيل أن الرب نفسه قد لقَّن هذه الصلاة لتلاميذه، ونحن بدورنا تسلَّمناها منهم إذ "في كل الأرض خرج منطقهم" (مز ١٩: ٤).
أهميَّة الصلاة الربانيَّة
لقد علّم ابن الله ذاته تلاميذه ومؤمنيه هذه الصلاة، لذلك لنا رجاء عظيم في الفوز في القضيَّة مادام لنا مثل هذا الشفيع الذي يلقِّننا ما نطلبه. إنَّه الديان الجالس عن يمين الآب كما تعرفون، هو شفيعنا وفي نفس الوقت هو الذي سيديننا، لذلك تعلَّموا هذه الصلاة.
ملاحظات في الصلاة
١. لنعلم ممَّن نطلب وماذا نطلب:
ينبغي على المصلِّي أن يحذر أمرين:
أ. أن يسأل ممَّن لا ينبغي أن نطلب منه. فلا يجوز لنا أن نطلب من الشيطان أو الأوثان أو الأرواح الشرِّيرة، بل نطلب كل شيء من الرب إلهنا يسوع المسيح، لنطلب من الله أب الأنبياء والرسل والشهداء.
ب. لنحذر من أن نطلب ما لا يجوز طلبه، فماذا ينفعكم لو طلبتم من الله الآب السماوي موت أعدائكم؟! ألم تسمعوا عمَّا ورد في المزمور متنبئًا عن نهاية يهوذا الخائن المؤلمة إذ يقول: "وصلاته فلتكن خطيَّة" (مز ١٠٩: ٧). فإن طلبتم الإثم لأعدائكم، فصلاتكم تكون خطيَّة عليكم .
٢. الاهتمام بالتقوى لا بكثرة الكلام
لقد نهانا ربَّنا عن كثرة الكلام، حتى لا تُقدَّم له كلمات كثيرة كما لو كنَّا نعلمه بكلامنا. لذلك لا تحتاجون في الصلاة إلى الكلام بل إلى التقوى. "لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (مت ٦: ٨)، ولئلاَّ يشك أحد فيقول: إن كان الله يعلم ما نحتاج إليه، فما الداعي إلى الصلاة سواء كانت بكلمات كثيرة أو قليلة؟! نعم أنَّه يعلم كل ما نحتاج إليه، ولكنَّه يريدكم أن تصلُّوا حتى يهبكم حسب اشتياقكم فلا تستخفُّوا بعطاياه، ناظرين إلى أنَّه قد وضع فينا هذه الصلاة لتكون أساسًا ونموذجًا لإشتياقاتنا، فلا نطلب شيئًا غير ما ورد فيها.

أولاً:
أبانا الذي في السماوات
(ممَّن نطلب؟)
١. لنصلِّي بدالة البنوَّة
يقول: "فصلُّوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات"، ففي قوله هذا نرى أن الله صار أبًا لنا. إنَّه يكون أباكم متى وُلدتم (بالمعموديَّة) ولادة جديدة. فالآن (وأنتم على أهبَّة العماد) قبل ميلادكم الجديد، قد حُبل بكم بزرع الله. إنَّكم على وشك الوجود حيث تُجلبون إلى جرن المعموديَّة رحم الكنيسة.
تذكَّروا أن لكم أبًا في السماوات، تذكَّروا إنَّكم وُلدتم من أبيكم آدم للموت، وأنَّكم تولدون مرَّة أخرى من الله الآب للحياة – فما تصلُّون به قولوه بقلوبكم.
٢. المسيح أخونا الأكبر
علَّمنا ابن الله ربَّنا يسوع المسيح هذه الصلاة، وبالرغم من كونه الرب نفسه، كما سمعتم وردَّدتم في قانون الإيمان قائلين: "ابن الله الوحيد"، ومع هذا فقد وهبنا أن نكون إخوة له . فمن هو هذا الذي يريدنا أن ندعوه أبًا لنا سوى أبوه هو؟!
عندما ينجب الآباء ابنًا أو اثنين أو ثلاثة يخشون من أن ينجبوا بعد ذلك، من العوز. وأمَّا ميراثنا نحن فكبير، لن يتأثَّر نصيب كل منَّا مهما ازداد عدد الوارثين. لهذا دعا الرب كل الشعوب ليكونوا إخوة له بلا عدد. هؤلاء يقولون: "أبانا الذي في السماوات". انظروا كم أخ صار للابن الوحيد بواسطة نعمته، يشاركون من مات لأجلهم في الميراث؟!
٣. لنسلك كأبناء الله
لنا والدان قد ولدانا على الأرض للشقاء ثم نموت. لكنَّنا وجدنا والدين آخرين، فالله أبونا والكنيسة أمِّنا، ولدانا للحياة الأبديَّة.
لنتأمَّل أيها الأحبَّاء أبناء من قد صرنا. لنسلك بما يليق بأبٍ كهذا، انظروا كيف تنازل خالقنا ليكون أبًا لنا؟!
لقد وجدنا لنا أبًا في السماوات، لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض، لأن من ينتسب لأبٍ كهذا ينبغي عليه السلوك بطريقة يستحق بها أن ينال ميراثه.
٤. جميعنا إخوة
لقد بدأتم تنتسبون إلى عائلة عظيمة، وبهذا النسب يصير الكل إخوة: السيِّد والعبد، القائد والجندي، الغني والفقير الخ. للمسيحيِّين آباء أرضيُّون مختلفو الرتب والطبقات، فمنهم من هم نبلاء، ومنهم المُزدرى بهم، ومع هذا فجميعهم يدعون أبًا سماويًا واحدًا، جميعهم يقولون: "أبانا الذي في السماوات"، فهل فهموا أنَّهم إخوة؟! فلا يستنكف السيِّد من أن يعتبر العبد أخًا له، ناظرًا إلى أن الرب يسوع وهبه أن يكون أخًا له.
٥. التطلُّع إلى السماويَّات
يا من وجدتم لكم أبًا في السماوات، امتنعوا عن الالتصاق بالأمور الأرضيَّة، إذ اقترب الوقت الذي فيه تقولون: "أبانا الذي في السماوات".
إن كان أبونا في السماء، فهناك أيضًا يُعدّ لنا الميراث. إنَّه يعطينا إمكانيَّة امتلاك ما قد وهبنا معه. فقد وهبنا ميراثًا لا نرثه بعد موته (كما هو الحال في العالم)، فأبونا حيّ لا يموت، وسيبقى إلى الأبد هناك حيث نذهب عنده.

ثانيًا:
الطلبات الست
(ماذا نطلب؟)

لقد سمعنا من هو الذي ينبغي أن ندعوه، وأي رجاء صار لنا لنوال ميراثٍ أبديٍ، إذ صار لنا أب سماوي. لنسمع الآن إلى ما ينبغي علينا سؤاله، ماذا نطلب من أب كهذا؟!
لقد سمعنا ممَّن نطلب، فلنعرف أيضًا ما ينبغي طلبه، لئلاَّ نخطئ إلى أبينا بسؤالنا أمرًا رديًا.
١. ليتقدَّس اسمك
لماذا تسألون من أجل تقديس اسم الله؟! أنَّه قدُّوس، فلماذا تسألون القداسة لمن هو قدُّوس أصلاً؟! إنَّكم إذ تسألونه ذلك هل تطلبون لأجل الله وليس لأجل صالحكم؟! لا، افهموا هذا جيِّدًا، وهو إنَّكم تسألون هذا لأجل أنفسكم. إنَّكم تسألون من هو قدُّوس في ذاته دائمًا أن يكون مقدَّسًا فيكم.
ماذا تعني كلمة "ليتقدَّس"؟ إنَّها تعني أن يتقدَّس اسم الله فيكم ولا يُحتقر فيكم. لذلك فإن ما تطلبونه هو لخيركم، لأنَّكم إن احتقرتم اسم الله تصيرون (وليس الله) أشرارًا.
يتقدَّس اسم الله فيكم بنوالكم سرّ المعموديَّة، ولكنَّكم لماذا تطلبون هذه الطلبة بعد العماد، إلاَّ لكي يبقى فيكم ما استلمتموه بالعماد إلى الأبد.
٢. ليأت ملكوتك
إن مجيئه آتٍ لا محالة، سواء سألناه ذلك أو لم نسأله. حقًا إن ملكوته أبدي، لأنَّه في أي وقت لم يكن لله ملكوت؟! متى بدأ يملك؟! إن ملكوته بلا بداية ولا نهاية.
ينبغي علينا أن نعلم أنَّنا نصلِّي بهذه الطلبة لأجل أنفسنا وليس لأجل الله، لأنَّنا لا نقول "ليأتِ ملكوتك"، كما لو كنَّا نسأل من أجل أن يملك الله، بل لكي نكون نحن من ملكوته، وذلك إن آمنّا به وتقدَّمنا في إيماننا هذا. كل المؤمنين الذين يخلصون بدم ابنه الوحيد سيكونون ملكوته . وهذا الملكوت آتٍ بعد القيامة، حيث يأتي الابن بنفسه ويقيم الأموات. ويقول للذين عن يمينه: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت" (مت ٢٥: ٣٤). هذا هو الملكوت الذي نرغبه ونطلبه بقولنا: "ليأت ملكوتك". إنَّنا نطلب أن يأتي بالنسبة لنا، لأنَّه وإن لم يأتِ بالنسبة لنا فسيأتي ولكنَّ للآخرين. أمَّا إذا اِنتمينا إلى أعضاء ابنه المولود الوحيد، فسيأتي ملكوته بالنسبة لنا ولا يتأخَّر.
هل لازالت سنوات كثيرة على مجيئه كتلك التي عبرت؟! يقول الرسول يوحنا: "أيَّها الأولاد إنَّها الساعة الأخيرة". أنَّها ساعة طويلة بالنسبة لذلك اليوم الطويل. انظروا كم من السنوات دامت هذه الساعة الأخيرة! إذن فلنسهر حتى ننام بالموت لنقوم في النهاية ونملك إلى الأبد.
ماذا يقصد بـ "ليأت ملكوتك"؟ يجدنا صالحين، فنحن نطلب منه أن يجعلنا صالحين حتى يأتي ملكوته بالنسبة لنا.
لتعطنا نصيبًا في ملكوتك، ليأتِ بالنسبة لنا ذاك الذي سيأتي لقدِّيسيك ولأبرارك.
٣. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
"لتكن مشيئتك"... ماذا نقول؟ هل لا ينفذ الله مشيئته ما لم نطلب نحن منه ذلك؟! تذكَّروا ما تكرِّرونه في قانون الإيمان قائلين: "نؤمن بإله واحد، الله الآب ضابط الكل (القدير)" فإن كان الله قديرًا، فلماذا نصلِّي أن تكون مشيئته؟
إذن ماذا يقصد بالطلبة "لتكن مشيئتك"؟ إنَّه يقصد بها أن تعمل مشيئته فيّ ولا أقاومها. وبذلك تطلبون من أجل أنفسكم لا من أجل الله لأن مشيئة الله عاملة فيكم ولو لم تكن بواسطتكم . فمشيئة الله عاملة فيمن سيقول لهم "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت ٢٥: ٣٤). كما تعمل فيمن سيقول لهم: "اذهبوا عنِّي... إلى النار الأبديَّة المعدَّة لإبليس وملائكته" (مت ٢٥: ٤١). تعمل مشيئته في الأوَّلين بأن يأخذ الأبرار والقدِّيسون ملكوت السماوات، كما تعمل في الآخرين بمعاقبة الأشرار بالنار الأبديَّة. أمَّا كون مشيئته تعمل بواسطتنا فهذا أمر آخر. فأنتم لا تصلُّون لكي تعمل مشيئته بلا فائدة بل لصالحكم. لأنَّه سواء أكانت لصالحكم أو لغير صالحكم فهي نافذة، ولكنَّها ستعمل فيكم وليس بواسطتكم.
ماذا يقصد بكلمتيّ "السماء، الأرض"؟
أ. الملائكة والبشر
تصنع الملائكة مشيئة الله، فهل نصنع نحن مشيئته؟! كما أن ملائكتك لا تعارضك، هكذا ليتنا نحن لا نعارضك أيضًا. كما أن ملائكتك تخدمك في السماء، هكذا لنخدمك نحن على الأرض.
ملائكته القدِّيسون يطيعونه، إنَّهم لا يخطئون إليه، بل ينفِّذون وصايَّاه لمحبَّتهم له. ونحن نصلِّي لكي ننفِّذ أيضًا وصاياه في حب.
ب. الروح (أو العقل) والجسد
العقل هو السماء، والجسد هو الأرض. لنقل مع الرسول: "أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطيَّة" (رو ٧). تُصنع مشيئة الله في السماء (في الذهن)، لكنَّها لم تصنع بعد على الأرض (الجسد). لكن عندما يتَّفق الجسد مع الذهن و"يُبتلع الموت إلى غلبة" (انظر ١ كو ١٥: ٥٤)، فلا تبقى بعد شهوات جسديَّة يصارع معها الذهن فينتهي الكفاح الأرضي، وتعبر الحرب القلبيَّة، المكتوب عنها: "لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذا يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل ٥: ١٧)؛ أقول عندما تنتهي هذه الحروب وتتحوَّل كل الشهوات إلى محبَّة، ولا يبقى في الجسد ما يضاد الروح، لا يبقى فيه شيء يُقمع أو يُلجم أو يُطأ بالأقدام، بل يصير الكل في وفاق نحو البرّ، عندئذ تكون مشيئة الله كما في السماء كذلك على الأرض. إذ نصلِّي قائلين "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" نطلب الكمال.
إنَّنا نقبل وصايا الله، وهي مبهجة لنا... مبهجة لعقولنا، "فإنَّنا نُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن" (رو ٧: ٢٢). وهذه هي مشيئته النافذة في السماء، لأن أرواحنا تشبه السماء، وأما الأرض فهي أجسادنا. إذن ماذا يقصد بالطلبة: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؟ يقصد بذلك كما تبتهج عقولنا بوصاياك، فلتُسر أيضًا بها أجسادنا. بهذا ينتهي الصراع الذي وصفه الرسول. فعندما تشتهي الروح ضدّ الجسد تكون مشئيته عاملة في السماء، وعندما لا يشتهي الجسد ضد الروح حينئذ تنفذ مشيئته على الأرض أيضًا. فإذ تتم مشيئة الله، يحدث وفاق تام بينهما ويتحوَّل الصراع الحالي إلى نصرة فيما بعد.
ج. الإنسان الروحاني والإنسان الجسداني
الإنسان الروحاني في الكنيسة هو السماء، أمَّا الجسداني فهو الأرض. هكذا "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" أي كما يخدمك الروحاني، هكذا ليخدمك الجسداني أيضًا بإصلاحه.
د. المؤمنون وغير المؤمنين
يوجد معنى روحي آخر... فقد طلب منَّا أن نصلِّي لأجل أعدائنا. فالكنيسة هي السماء، وأعداؤها هم الأرض، فماذا يعني "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؟ أي أن يؤمن بك الأعداء، كما نؤمن نحن بك. إنَّهم أرض لذلك هم يعادوننا، فليصيروا سماءً، يكونوا معنا.
السماء هي الكنيسة، لأنَّها عرش الله. والأرض هي غير المؤمنين، الذين قيل عنهم "لأنَّك تراب earth وإلى التراب تعود" (تك ٣: ١٦LXX )... فيقصد بـ "كما في السماء كذلك على الأرض"، أي كما في مؤمنيك كذلك في الذين يجدِّفون عليك حتى يصيروا "سماءً".
ليتنا عندما نردِّد هذه الطلبة نفكر في جميع هذه المعاني سائلينها من الرب.
٤. خبزنا اليومي اعطنا يوميًا
عندما تقولون: "ليتقدَّس اسمك" و"لتكن مشيئتك"، "ليأتِ ملكوتك" هذه جميعها تحتاج إلى إيضًاح حتى لا تحسبوا أنفسكم تطلبون لأجل الله بل لأجلكم، أمَّا ابتداءً من هذه الطلبة حتى نهاية الصلاة، فإنَّه يظهر بوضوح أنَّنا نصلِّي إلى الله لأجل صالحنا. فعندما تقولون "خبزنا اليومي أعطنا اليوم"، تعترفون باستعطائكم الله، ولكن لا تخجلوا من هذا، إذ مهما بلغ غنى أيّ إنسان على الأرض فهو شحَّاذ من الله.
يقف الشحَّاذ أمام منزل الغني، ويقف الغني أيضًا أمام باب ذلك الواحد العظيم في الغني. من الغني يطلب الفقراء، وهو بالتالي يطلب. فلو لم يكن محتاجًا ما كان له أن يقرع على آذان الله بالصلاة.
وما هو احتياج الغني؟ أتجاسر فأقول أنَّه يحتاج إلى خبزه اليومي. لأنَّه كيف توفَّرت كل ما لديه من بركات إلاَّ لأن الله وهبه إيَّاها؟! ماذا يكون حاله لو رفع الرب يده عنه؟! ألَم ينم كثيرون من الميسورين وقاموا فوجدوا أنفسهم معدمين؟! فعدم عوز الغني إنَّما يرجع إلى مراحم الله وليس إلى قدرته.
ماذا يقصد بالخبز اليومي؟
أ. القوت والكساء اليومي
هب لنا يا رب أشياء أبديَّة (الطلبات السابقة). أعطنا أشياء زمنيَّة. لقد وعدت بالملكوت، فلا تمسك عنَّا الوسيلة التي نعيش بها. ستهبنا مجدًا أبديًا بإعطائنا ذاتك فيما بعد. أعطنا في هذه الأرض المئونة الزمنيَّة التي نقتات بها. لذلك فهو خبز يومي، وليعطنا إيَّاه "اليوم" أي في هذه الحياة. لأنَّكم هل تطلبون خبزًا يوميًا بعد عبوركم هذه الحياة؟! هناك لا تقال كلمة "يوميًا" بل "اليوم" . الآن يقال يوميًا، أمَّا هناك فهل سيُدعى "يوميًا" حيث يكون يومًا واحدًا أبديًا؟!
بلا شك تفهم هذه الطلبة عن الخبز اليومي بمفهومين هما: القوت الضروري للجسد، والقوت اللازم للروح.
ينبغي على الإنسان ألاَّ يشتهي أكثر من القوت اليومي، لأنَّه كما يقول الرسول: "لأنَّنا لم ندخل العالم بشيء؟ وواضح أنَّنا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما" (١ تي ٦: ٧-٨).
إخوتي الأعزاء... هذا الخبز الذي يشبع أجسادنا وينعش أبداننا كل يوم، لا يعطيه الله للذين يمجِّدونه فحسب، بل وللذين يجدِّفون عليه أيضًا، "فإنَّه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت ٥: ٤٥). إنَّكم تمجِّدون الله وهو يقوتكم، إنَّكم تجدِّفون عليه ومع هذا يطعمكم. إنَّه ينتظر توبتكم، فإن لم تتغيَّروا فسيدينكم.
ب. كلمة الله
هل لأن كلاً من الأشرار والأبرار ينالون خبزًا من الله، يحسبون أنَّه لا يوجد خبز آخر خاص يطلبه أولاد الله؟! إنَّه الخبز الذي يقول عنه الرب في الإنجيل: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب" (مت ١٥: ٢٦). فبالتأكيد يوجد خبز آخر. ويُدعى خبزًا يوميًا، لأنَّه ضروري كالخبز العادي، بدونه لا نستطيع أن نحيا... ألا وهو كلمة الله التي توزَّع يوميًا!
خبزنا خبز يومي، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، ضروري لنا نحن الذين لا نزال نعمل في الكرمة. هو غذاؤنا وليس أجرتنا، فمن يستأجر عاملاً يحق عليه الغذاء الذي بدونه يخور العامل. كما تحق عليه الأجرة التي بها يُسر العامل. غذاؤنا اليومي في هذه الحياة هو كلمة الله التي توزع على الدوام في الكنائس، أمَّا الأجرة (المكافأة) التي ننالها بعد العمل فهي ما تدعى بالحياة الأبديَّة.
أما ما عالجته الآن أمامكم (أي شرح الصلاة الربانيَّة نفسه) هو خبز يومي، كذلك فصول الكتاب المقدَّس اليوميَّة التي تسمعونها في الكنيسة هي خبز يومي. كذلك التسابيح التي تسمعونها وتمجِّدون بها الله هي خبز يومي. لأن هذه جميعها لازمة لنا أثناء رحلتنا.
ولكن هل سنسمع كلمة الله في السماء عندما نبلغها، حيث نرى الله الكلمة ذاته ونسمع الكلمة ذاته ونأكله ونشربه كما تفعل الملائكة الآن؟! هل تحتاج الملائكة إلى كتب ومفسِّرين وقرَّاء؟! بالتأكيد لا. لأنَّهم يقرأون بالنظر. إنَّهم يعاينون الحق ذاته، يشبعون بغزارة من ذلك الينبوع الذي نحصل نحن على قطرات قليلة منه. لذلك فإن هذه الطلبة ضروريَّة لنا في هذه الحياة.
ج. سرّ الإفخارستيا
إن فهمتم هذا الخبز على أنَّه ما يأخذه المؤمنون، وما ستأخذونه أنتم أيضًا بعد نوالكم سرّ المعموديَّة، فإنَّه يكون لزامًا علينا أن نسأل ونطلب "خبزنا اليومي، أعطنا اليوم" حتى نحيا حياة معيَّنة (صالحة) ولا نحرم من الهيكل المقدَّس (أي من التناول من الأسرار المقدَّسة).
فهناك معنى جميل جدًا لهذه الطلبة، فإذ نطلب: "خبزنا اليومي أعطنا اليوم" نعني "اعطنا جسدك، طعامنا اليومي، لأن المؤمنين يعرفون الذين يقبلونه، وهم ينالونه لنفعهم، فهو لازم لهذه الحياة. إنَّهم يطلبونه لأجل أنفسهم أن يصيروا صالحين، وأن يثابروا على الصلاح والإيمان والسلوك المقدَّس، لأنَّهم إن لم يثبتوا في الحياة الصالحة يحرمون من تناول (سرّ الإفخارستيا). لذلك ماذا نقصد بـ "خبزنا اليومي أعطنا اليوم"؟ إنَّنا نعني: اجعلنا نعيش صالحين حتى لا نحرم من مذبحك.
أما عند إنهاء هذه الحياة، فإنَّنا لا نبحث عن الخبز الذي نجوع إليه، ولا نأخذ من الأسرار المقدَّسة من على المذبح، لأنَّنا سنكون هناك مع المسيح الذي نتناول جسده الآن. ولا تحتاجون إلى ما أحدِّثكم به الآن، ولا يُقرأ في الكتاب المقدَّس، إذ نعاين كلمة الله نفسه، الذي به صُنعت كل الأشياء، وبه تتغذَّى الملائكة وتستضيء، ونصير حكماء دون حاجة إلى المناقشات المستمرَّة، بل يشربون من الكلمة الوحيد، ممتلئين من ذاك الذي يسبحونه على الدوام، لأنِّه يقول المزمور: "طوبى للساكنين في بيتك، أبدًا يسبحونك" (مز ٨٤: ٤).
٥. وأغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا
"وأغفر لنا ما علينا"؛ إنَّنا مدينون بالخطايا لا بالمال. ولكنَّكم قد تقولون: وهل أنتم أيضًا مدينون بالخطايا؟ أجيب نعم.
أأنتم أيها الأساقفة مدينون؟ نعم نحن مدينون أيضًا. 
ما هذا يا ربي؟! أزيلوا عنكم هذا (أي دينونة الأساقفة) ولا تخطئوا.
لقد نلنا سرّ المعموديَّة، ومع ذلك فنحن مدينون، لا لأن المعموديَّة لم تغفر خطيَّة معيَّنة، وإنَّما لأنَّنا نرتكب في حياتنا ما يحتاج إلى غفران يومي. إن الذين اعتمدوا، وبعد خروجهم من جرن المعموديَّة انتقلوا من العالم في الحال، هؤلاء تركوا العالم وهم بلا خطيَّة، وأما من اعتمد، وبقي في هذه الحياة، فإنَّه يرتكب نجاسات بسبب ضعفه الجسدي. وبالرغم من أن ما يرتكبه من نجاسات لا يؤدِّي إلى غرق سفينة حياته، إلاَّ أنَّها تحتاج إلى مضخَّة تنزح هذه النجاسات التي دخلت السفينة لئلاَّ يؤدِّي دخولها شيئًا فشيئًا إلى غرق السفينة. وأما المضخَّة فهي الصلاة، ولكن علينا أن نصنع الإحسان أيضًا مع الصلاة. فعندما نستخدم المضخَّة لنزح ما بالسفينة، نستخدم أصواتنا وأيدينا. ونحن أيضًا نستخدم أصواتنا عندما نصلِّي قائلين: "أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" ونعمل بأيدينا عندما "نكسر للجائع خبزًا وندخل المساكين التائهين إلى بيوتنا" (أنظر إش ٥٨: ٧). اصنع إحسانًا في قلب الفقير فيشفع فيك أمام الرب.
إنَّنا نقول "أغفر لنا ذنوبنا"... أي إنسان يعيش في هذه الحياة ولا يحتاج إلى هذه الطلبة؟ قد يتكبَّر الإنسان، لكنَّه لا يستطيع أن يتبرَّر. من الأفضل له أن يقتدي بالعشار، لا أن ينتفخ كالفرِّيسي الذي صعد إلى الهيكل متباهيًا باستحقاقه، خافيًا جراحاته. فالذي قال: "اللهم ارحمني أنا الخاطي" (مت ١٨: ١٢) عرف إلى أين يصعد.
أنظروا أيُّها الإخوة، كيف علَّم الرب يسوع تلاميذه الذين هم رسله الأوَّلين العظماء، قادة قطيعنا، علمهم أن يصلُّوا بهذه الصلاة. فإن كان القادة يطلبون من أجل مغفرة خطاياهم، فكم بالأكثر ينبغي علينا نحن الحملان؟!
ففي "جرن الولادة الجديدة"، ننال مغفرة جميع خطايانا ومع ذلك فنحن نُساق إلى ضيقات عظيمة ما لم ننل المغفرة اليوميَّة بهذه الطلبة المقدَّسة. فالصلاة والإحسان يرفعان الخطايا، بشرط ألاَّ تُرتكب تلك الخطايا التي بسببها نُحرم من الخبز اليومي (من التناول من الأسرار المقدَّسة). علينا أن نتجنَّب كل الآثام التي بسببها نستحق تأديبات قاسية.
لا تحسبوا أنفسكم إنَّكم أبرار عندما لا تستطيعون القول: "أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا".
إنسان يخطىء بالتلذُّذ بالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه. فمن يستطيع أن يسيطر على عينيه بسرعة ليغلقها؟!
من يستطيع أن يضبط أذنيه أو عينيه؟ يمكنكم أن تغلقوا العين حيثما تشاءون، ولكن الآذن تحتاج إلى مجهود لإغلاقها، إنَّها ستبقى مفتوحة، ولا يمكن إغلاقها عن سماع هذه الأمور بلذَّة، أمَّا تخطئون رغم عدم ارتكابكم للخطيَّة (لأنَّكم تنصتون بالرغم من إرادتكم)؟
يا لعظم الخطايا التي يرتكبها اللسان! نعم ان بعضها تحرم الإنسان من الاقتراب إلى المذبح كالتجديف، فاللسان ينطق بالتجديف كما قد ينطق بكلمات تافهة غير لائقة.
امنعوا أيديكم عن ارتكاب الخطايا، وأرجلكم عن الجري نحو الشرّ، وأعينكم عن النظر نحو ما هو قبيح، وآذانكم عن الاستماع بلذَّة إلى الحديث القبيح، وألسنتكم عن النطق بألفاظ معيبة، ومع هذا فأخبروني إن كان يستطيع أحدكم أن يضبط الأفكار؟! إخوتي كم مرَّة نصلِّي ونحن مشتِّتي الفكر، كما لو نسينا أمام من نحن واقفون أو أمام من نطرح أنفسنا؟!
اغفروا من القلب، أي انزعوا الغضب من قلوبكم. لنقل في كل يوم: "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، وليكن هذا القول من القلب، عالمين بما نقوله. أنَّه عهد وميثاق، إنَّه ارتباط بيننا وبين الله. فالرب إلهنا يقول لنا: "اغفروا يغفر لكم"، فإن لم نغفر للآخرين تبقى خطايانا علينا وليس عليهم.
أبنائي الأعزاء المحبوبين، أطلب إليكم أن تستمعوا إليّ، فقد عرفت ما هو صالح لكم في الصلاة الربانيَّة. لقد اقترب موعد عمادكم. اغفروا للآخرين عن كل شيء. إن كان في قلب أحدكم شيئًا على آخر، فلتغفروا له. ادخلوا المعموديَّة هكذا وأنتم متأكِّدون أن جميع خطاياكم التي ارتكبتموها قد غُفرت لكم، سواء الخطيَّة الجِديَّة التي ولدتم بها، والتي بسببها تسرعون للرضاعة من نعمة المخلص، أو تلك الخطايا التي ارتكبتموها في حياتكم، إن كانت بالكلام أو بالفعل أو بالفكر. فتخرجون من ماء المعموديَّة كما من أمام حضرة إلهكم، متأكِّدين من العفو التام عن جميع آثامكم.
لقد وهبنا الله ميثاقًا وعهدًا وارتباطًا راسخًا فيه، فمن أراد القول "اغفر لنا ذنوبنا" بطريقة مجدية، عليه أن ينطق بحق قائلاً: "كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا". فإن لم ننطق بهذا القول الأخير، أو قلناه بخداعٍ يكون طلبنا الغفران باطلاً.
إنَّنا نقول لكم يا من اقترن موعد عمادكم المقدَّس أن تغفروا من قلوبكم كل شيء، وأنتم أيضًا أيُّها المؤمنون الذين تنتفعون بإصغائكم إلى هذه الصلاة وشرحها، اغفروا كل ما على الآخرين غفرانًا تامًا من قلوبكم. اغفروا من قلوبكم التي يراها الله. لأنَّه أحيانًا يغفر الإنسان بفمه، ولكنَّه لا يغفر لأخيه من قلبه. يغفر بالفم لأجل البشر، ولا يغفر من قلبه حيث لا يخاف عين الله. لا أقل من أن تغفروا في هذه الأيَّام المقدَّسة (أيَّام الصوم الكبير) كل ما أبقيتموه في قلوبكم على الآخرين.
مكتوب "لا تغرب الشمس على غيظكم" (أف ٤: ٢٦) ومع ذلك فهوذا قد غابت الشمس مرارًا على غيظكم. انزعوا غيظكم، فإنَّنا نحتفل بأيَّام الشمس العظيم (المسيح)، هذه الشمس المكتوب عنها "لكم تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها" (مل ٤: ٢). فإن كنتم غضبى، فلا تدعوا هذه الشمس (المسيح) تغرب في قلوبكم على غيظكم، لئلاَّ يغرب شمس البرّ عنكم وتبقون في الظلام.
لا تظنُّوا أن الغضب (أي عدم الغفران للآخرين) أمر يُستهان به، إذ يقول النبي: "تعكَّرت من الغضب عيناي" (مز  ٦: ٧). فبالتأكيد لا يستطيع متوعِّك العينين معاينة الشمس، فإن حاول النظر إليها أضرَّته.
وما هو الغضب؟ أنَّه شهوة الانتقام. يشتهي الإنسان الانتقام مع أن المسيح لم ينتقم بعد، ولا الشهداء انتقموا. إن أناة الله لازالت تنتظر اهتداء أعداء المسيح وأعداء الشهداء. فمن نحن حتى نطلب لأنفسنا الانتقام؟! فلو طلب الله الانتقام منَّا فهل نستطيع أن نثبت؟! فإن كان الله الذي لا يضرُّنا في شيء لا يرغب في الانتقام منَّا، فهل نطلب نحن الخطاة على الدوام الانتقام لأنفسنا؟! إذن اغفروا من قلوبكم للآخرين.
وإذا غضبتم فلا تخطئوا، "اغضبوا ولا تخطئوا". فأنتم كبشر تغضبون متى تغلَّب الغضب عليكم. ولكن وجب عليكم ألاَّ تخطئوا بإبقائه في قلوبكم. لأنَّكم إن تركتموه في قلوبكم صار الغضب ضدَّكم ويحرمكم من معاينة النور. لذلك اغفروا للآخرين.
ما هو الغضب؟ أنَّه شهوة الانتقام. وما هي الكراهيَّة؟ إنَّها غضب مزمن. فإن الغضب متى أزمن صار كراهيَّة، فالغضب هو "قذى"، وأما الكراهيَّة فهي "خشبة". فأحيانًا ننظر إلى غضب أخينا كخطيَّة يرتكبها، ونحن في نفس الوقت نحتفظ في قلوبنا بالكراهيَّة. لذلك يقول السيِّد المسيح: "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأمَّا الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟"
كيف تنمو القذى لتصير خشبة؟ بعدم استئصالها سريعًا. فإذ تتركون الشمس تشرق وتغرب كثيرًا على غيظكم تجعلوه يزمن... وإذ ترونه بالشكوك الشرِّيرة تجعلونه ينتعش ويصير (كراهيَّة) خشبة.
فلترتعبوا عند سماعكم "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (١ يو ٣: ١٥). حقًا إنَّكم لم تقتلوه بالسيف ولا سببتم له جروحًا، إنَّما بالكراهيَّة التي في قلوبكم تعتبرون قاتلين ومجرمين في عينيّ الله.
إن وجدتم في منازلكم عقارب وأفاعي، أفلا تجتهدوا لطردها حتى تعيشوا في أمان منها في منازلكم؟! ومع ذلك هوذا الغضب يتأصل في قلوبكم، وتنمو فيكم كراهيَّات كثيرة وخشب كثير وعقارب وأفاعي، ومع ذلك فلا تنقُّون قلوبكم التي هي مسكن الله.
هل نستطيع أن نغفر لأعدائنا؟
لكن إذا كان لكم أعداء فماذا تفعلون؟! تيقَّظوا لأنفسكم، وأحبُّوا أعداءكم. لأن عدوُّكم لا يستطيع بقوَّته أن يؤذيكم. قدر ما تؤذون أنفسكم بعدم محبَّتكم له. فقد يتلف عقاركم أو قطعانكم أو منازلكم أو خدمكم أو خادماتكم أو أبناءكم أو زوجاتكم... أو على الأكثر يُعطى له سلطان على أجسادكم، ولكن هل في قدرته أن يؤذي أرواحكم كما تؤذونها أنتم؟!
أعزائي الأحباء، أتوسَّل إليكم أن تسعوا نحو الكمال ولكن هل في استطاعتي أن أهبكم القدرة على محبَّة الأعداء؟ إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يهبكم هذه القوَّة، ذاك الذي تقولون له "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".
لا تنظروا إلى محبَّة الأعداء كأمر مستحيل بالنسبة لكم، فإنَّني بحسب خبرتي أعرف مسيحيِّين يحبُّون أعداءهم. فإن ظهرت محبَّة الأعداء كأمر مستحيل فإنَّكم لن تحبُّونهم. فعليكم أولاً أن تؤمنوا أنَّه يُمكن لكم أن تحبُّوا أعداءكم، وصلُّوا حتى تعمل إرادة الله فيكم. لأنَّكم ماذا تنتفعون بما يصيب أخوكم (عدوُّكم)؟! فلولا كونه شرِّيرًا ما كان قد صار عدوًا لكم. إذن فعليكم أن تشتهوا له الخير، فينتهي شرُّه، وبالتالي لا يعود بعد يكون عدوًا لكم. إنَّه عدوّ لكم لا بسبب طبيعته البشريَّة، بل بسبب خطيَّته.
لقد كان شاول عدوًا للكنيسة، وكانت الكنيسة تقيم صلوات من أجله ليصير صديقًا لها. فلم يكفْ شاول عن اضطهاد الكنيسة فحسب بل وصار يجاهد لمساعدتها. لقد أُقيمت صلوات ضدَّه، لكنها لم تكن ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. فلتكن صلواتكم ضد افتراءات عدوُّكم حتى تُباد، أمَّا هو فيحيا. لأنَّه إن مات عدوُّكم، تفقدونه كعدوّ، ولكنَّكم تخسرونه كصديق أيضًا. أمَّا إذا ماتت افتراءاته فتفقدون عدوًا، وفي نفس الوقت تكسبون صديقًا.
هل جميع الذين في الكنيسة، والذين يتقرَّبون إلى المذبح، والذين يتناولون من جسد المسيح ودمه، يحبُّون الرب؟ ومع هذا فجميعهم يقولون: "أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا". بماذا يجيبون لو قال الله لهم: "لماذا تسألونني أن أفي بوعدي، ومع ذلك فأنتم لم تنفذوا ما طلبته منكم؟" ماذا وعدت؟ "أن أغفر خطاياكم". وبماذا أُمرتم؟ "أن تغفروا للمذنبين إليكم".
كيف تستطيعون بالحري تنفيذ ما أمركم به الرب ما لم تحبُّوا أعداءكم، نعم بالحري صلوا لكي تحبوهم.

كيف نحب أعداءنا؟
1. بالتدريب على مسامحتهم عندما يعتذرون
إن لم تغفروا للآخرين تهلكون. لذلك إن استسمحكم عدوَّكم اغفروا له للحال. هل كثير عليكم أن تغفروا له عندما يعتذر لكم؟! إن كانت محبَّة عدوّكم أثناء إساءته لكم صعبة عليكم، فهل كثير عليكم أن تحبُّوه عندما يتوسَّل إليكم؟! لكنَّكم قد تقولون لقد كان من قبل قاسيًا، ولهذا تكرهونه. ومع هذا فإنَّني أفضِّل ألاَّ تكرهونه حتى أثناء إساءته لكم!
2. تذكُّر محبَّة المسيح لأعدائه
عندما تعانون من قسوة عدوّكم، استحسن أن تذكُروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنَّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو ٢٣: ٣٤). إنَّني أشتاق بالأكثر أن تتذكَّروا كلمات إلهكم هذه، حتى أثناء اعتداء عدوَّكم عليكم، لكنَّكم قد تقولون أنَّه قال ذلك كإله، أمَّا أنا الضعيف الخاطيء، كيف أستطيع ذلك؟! إن كان ربَّكم مثلاً عاليًا بالنسبة لكم فلتنظروا إلى زميلكم الخادم، فإذ كانوا يرجمون إسطفانوس، كان يصلِّي بركب منحنية لأجل أعدائه قائلاً: "يا رب لا تقم لهم هذه الخطيَّة" (أع ٧: ٦). لقد كانوا يقذفونه بالحجارة، دون أن يطلبوا منه العفو، ومع هذا كان يصلِّي لأجلهم. أريد أن تتمثِّلوا به. تقدَّموا إلى الأمام. لماذا تسحبون قلوبكم إلى الأرض إلى الأبد؟ اسمعوا: "ارفعوا قلوبكم ". فإن لم تستطيعوا أن تحبُّوا أعداءكم أثناء اعتدائهم عليكم، فلا أقل من أن تحبُّوهم أثناء طلبهم العفو منكم. فإن قال لكم: "أخي أخطأت إليك، اعفِ عنِّي"، فإن لم تغفروا له، لا أقول بأن صلاتكم تُمحى من قلوبكم، بل ستُمحى نفوسكم من كتاب الله.
مغفرة الخطايا للآخرين لا تعني عدم التأديب
إن كان ينبغي عليكم أن تغفروا للآخرين أو تزيلوا من قلوبكم كراهيَّتكم لهم، فإنَّني أطلب إليكم ألاَّ تمتنعوا عن تأديبهم بلياقة. ماذا يحدث لو طلب أحدكم الصفح منِّي، ولكن وجب عليّ أن أؤدِّبه.
عدم الشك في نيَّة طالب العفو
لعلَّكم تقولون: أنَّه يخدعنا. أنَّه يتظاهر. يا من تدينوا القلوب، هل تستطيعون أن تخبروني ما هي أفكار آبائكم أو حتى أفكاركم التي جالت لكم بالأمس؟ إن عدوَّكم يطلب منكم الصفح. اغفروا له بكل وسيلة. فإن لم تغفروا له لا تضرُّونه بل تضرُّون أنفسكم. لأنَّه عرف ما ينبغي عليه أن يفعله. فإذ تمتنعون عن قبول اعتذاره، يذهب إلى ربَّكم ويقول له: "يا رب لقد طلبت من زميلي العبد ليغفر لي فلم يشاء. اغفر أنت لي". أليس في سلطان الله أن يغفر له؟! هكذا سينال الغفران من إلهه، ويعود محاللاً من خطيَّته، بينما تبقون أنتم مربوطين بالخطيَّة، إذ يأتي وقت الصلاة الذي تقولون فيه: "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، فيجيبكم الرب "أيُّها العبيد الأشرار، كل هذا الدين تركته لكم لأنَّكم طلبتم إليّ، أفما كان ينبغي عليكم أنتم أيضًا أن ترحموا العبيد رفقاءكم كما رحمتكم أنا" (أنظر مت ١٨: ٣٢-٣٣). هذه ليست كلماتي، لكنَّها من الإنجيل نفسه.
٦. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجِّنا من الشرِّير
لقد تحدَّثنا كثيرًا عن الخطايا التي سبق أن ارتكبناها، ولكن بماذا نصلِّي لأجل الخطايا المقبلة؟
ولا تدخلنا في تجربة
اغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها، وهبنا أيضًا ألاَّ نخطئ بعد بأية خطيَّة. لأن من يُغلب من التجربة يسقط في الخطيَّة. لهذا يقول الرسول يعقوب: "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ الله، لأَنَّ الله غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً. وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطيَّة، وَالخَطيَّة إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً" (ع ١: ١٣-١٥). فإذ لا تنجذبون إلى الشهوة لا تقبلونها، فإن قبلتموها تكونون كما لو كنتم تحتضنوها بقلوبكم.
إن الشهوة تثور، فاضبطوا أنفسكم ولا تتبعوها. أنَّها نجسة ومحرَّمة. أنَّها تفصلكم عن الله. فعليكم ألاَّ تحتضنونها بقبولكم لها، لئلاَّ تلد، لأنَّه إن قبلتموها أي احتضنتموها حبلت، و"الشهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطيَّة". ألا تخافوا من أن تلد خطيَّة؟! " وَالْخَطيَّة تُنْتِجُ مَوْتاً". فإن لم تخافوا من الخطيَّة، خافوا من عاقبتها، أيّ خافوا من الموت. الخطيَّة حلوة، ولكن الموت مرّ. إنَّكم تخطئون بسبب المال أو لمركز عالمي أو بسبب امرأة، أو أي شيء آخر، هذه التي ستتركونها متى أغلقتم أعينكم للموت، وأما الخطيَّة التي ترتكبونها فستحملونها معكم بعد الموت.
الله لا يجرِّب أحدًا بالتجارب التي ننخدع بها ونضلّ، ولكنَّه في عمق عدله يسمح بلا شك أن يتخلَّى عن البعض، فيجد المجرب فرصته، لأنَّه لا يجد في الإنسان الذي تخلَّى عن الله أية مقاومة. فإذ يتخلَّى الله عنهم يتقدَّم المجرِّب كمالك لهم. لهذا نقول: "لا تدخلنا في تجربة" أي لا تتخلََّ عنَّا.
ماذا يعلِّمنا الرسول يعقوب؟ أن نحارب شهواتنا. فإنَّكم مزمعون أن تطرحوا خطاياكم بنوالكم سرّ العماد المقدَّس، ولكن مع ذلك تبقى شهوات تحاربون إيَّاها بعد تجديدكم، لأن الصراع معها سيزال قائمًا .
لا تخافوا من أي عدوّ خارجي. انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كلُّه. لأنَّه ما هو سلطان المجرِّب الخارجي عليكم، سواء أكان الشيطان أو خادمه؟! فمن يبث أمامكم محبَّة الربح لإغرائكم بالخطيَّة لن يجد في داخلكم الطمع، عندئذ لا يستطيع أن يفعل بكم شيئًا، أمَّا إن وُجد فيكم الطمع فستحترقون عندما يغريكم بالربح، وبذلك يصطادكم بطُعمٍ فاسدِ.
وإن قدَّم العدوّ أمامكم نساء فائقات الجمال، فإن كانت العفَّة في داخلكم، فستغلبون العدوّ المظلم الخارجي. حاربوا شهواتكم الداخليَّة فلا يستطيع العدوّ أن يقتنصكم بطُعم امرأة غريبة.
إنَّكم لا تدركون عدوَّكم، لكنَّكم تدركون شهواتكم... إذن فلتسيطروا على شهواتكم التي تلمسوها داخلكم.
لكن نجِّنا من الشرِّير
لنفهم هذه العبارة على أنَّها مكمِّلة للعبارة: "لا تدخلنا في تجربة"، لذلك عطفت بحرف "لكن". تُفهم العبارتان على أنَّهما طلبة واحدة، فبنجاتنا من الشرِّير لا ندخل في تجربة، وبعدم إدخالنا في تجربة ننجو من الشرِّير.

تقسيم الطلبات

الطلبات الثلاث الأولى تخص الحياة الأبديَّة، لأنَّه ينبغي أن يتقدَّس اسم الله فينا على الدوام، وأن يبقى ملكوته دائمًا، وأن نصنع مشيئته إلى الأبد.
أمَّا "خبزنا اليومي" فهو ضروري لنا حاليًا، وكل الطلبات التالية تخص الحياة الحاضرة. فالخبز اليومي نحتاج إليه في هذه الحياة، ومغفرة الخطايا ضروريَّة في هذا العالم، لأنَّنا إذ نصل إلى الحياة الأخرى لا تكون هناك خطايا. وفي هذا العالم توجد تجارب حيث أن الإبحار فيه خطير، لكنَّنا عندما نتساوى مع ملائكة الله، لا نعود بعد نحتاج إلى الصلاة من أجل مغفرة خطايانا.
تأكيد الطلبة الخامسة
"فإنَّه إن غفرتم للناس زلاَّتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي وإن لم تغفروا للناس زلاَّتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماوي أيضًا زلاَّتكم".
أحبَّائي الأعزاء، حقًا إنَّها لتجربة خطيرة في هذه الحياة، أن نُجرب بالتجربة الخاصة بغفران خطايانا. إنَّها لتجربة خطيرة، أن يؤخذ منَّا ما نشفي به جراحات التجارب الأخرى. إنَّني أعلم أنَّكم لم تفهمونني بعد. أنصتوا إليّ فتفهمون.
(يقصد القدِّيس أغسطينوس أنَّه لو كانت تجربتنا هي عدم المغفرة للآخرين، أي كراهيتنا لهم وحب للانتقام لأنفسنا منهم، فإنَّنا نكون بذلك قد أغلقنا على أنفسنا باب الغفران للتجارب الأخرى، لأنَّه لن تغفر لنا أية خطيَّة ما لم نغفر نحن للآخرين.)
افترض أن الطمع حارب إنسانًا، فسقط هذا الإنسان في الطمع، رغم كونه مجاهدًا ممتازًا، لقد جُرح هذا الإنسان في صراعه، ولكن هذا المصارع (رغم جراحاته)، لديه الباعث أن يقول: "أغفر لنا ذنوبنا". هكذا يجد هذا المصارع فرصته لسؤال الغفران متى سقط في أية تجربة. ولكن ما هي هذه التجربة الخطيرة التي سبق أن أشرت إليها؟ إنها حب الانتقام لأنفسنا. إنَّها تجربة خطيرة أن يلتهب الإنسان غضبًا ويحترق انتقامًا. بسببها نخسر نوال المغفرة عن الخطايا الأخرى. إنَّكم إن ارتكبتم أية خطيَّة أخرى أو شهوات أخرى، فستجدون علاجكم في القول "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، ولكن إن خسرتم قوَّة هذه الطلبة فستبقون في كل خطاياكم.
عندما علمنا ربَّنا وسيِّدنا ومخلِّصنا ست أو سبع طلبات في هذه الصلاة، لم يعالج أية طلبة ولا أمرنا بإحداها مثل ما فعل بهذه الطلبة، وذلك لعلمه بخطورتها في الحياة، فعندما ختم الصلاة الربانيَّة لم يتوسَّع في أية طلبة، بل قال: "فإن غفرتم للناس زلاَّتهم".
احترزوا يا إخوتي، يا أبنائي، يا أولاد الله، احذروا من الغضب. إنَّني أرجوكم أن تحاربوا إلى النهاية بكل قلوبكم. فإن وجدتم الغضب ماثلاً أمامكم صلوا إلى الله حتى يعطيكم النصرة على أنفسكم. لا أقول أن يعطيكم النصرة على أعدائكم الخارجيِّين بل على أرواحكم الداخليَّة.
إنكم ترون يا أحبَّائي كم من الطلبات علمنا إيَّاها ربَّنا المسيح، وبالكاد تجدون فيها طلبة خاصة بالخبز اليومي. أنَّه يوجِّه كل تفكيرنا نحو الحياة المقبلة. لأنَّه لماذا نخاف لئلاَّ لا يهبنا شيئًا ممَّا نحتاج إليه، وقد وعده قائلاً: "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرُّه وهذه كلَّها تزداد لكم" (مت ٦: ٣٣)، "لأن أباكم السماوي يعلم إنَّكم تحتاجون إلى هذه كلَّها" (مت ٦: ٣١) قبل أن تطلبوها، فكثيرون جُرَّبوا حتى بالجوع فوجدوا إنَّهم ذهب، ومع ذلك لم ينسهم الله.

ترجمة

القمص تادرس يعقوب ملطي
أحدث أقدم