الموعظة على الجبل للقديس أغسطينوس


بين يديك أيها القارئ العزيز كتاب لمؤلف عظيم، لا يحتاج إلى تعريف.  فلقد انتقل القديس أغسطينوس إلى السماء في عام 430م ولكن سيرته، إلى اليوم، تعتبر نورًا ومرشدًا للتائبين حتى قيل إن الذين رجعوا إلى المسيح بسماع سيرته زادوا في العدد عن الذين تابوا عن طريق عظاته.

أغسطينوس قضى جزءًا كبيرًا من حياته في دراسة فلسفات العالم المادية، واقترف من الشرور الكثير جدًا. ولكن عندما أضاء المسيح حياته تحول إلى قديسٍ يعترف به العالم كله. ومن دراسة حياته يمكننا أن نفهم اتجاهاته في كتاباته التأملية والتفسيرية.
فهو يعطي أهمية كبرى للكتاب المقدس، فحتى في أيام شروره الأولى كان يدرس الكتاب، ويرى في الكتاب المقدس الكمال الروحي، ويؤمن به، لأن نبوات العهد القديم قد تحققت في العهد الجديد، كما أن تعاليمه قد انتشرت رغم مقاومة العالم لها. فأغسطينوس يؤمن ويعتقد أن نجاة الإنسان لا توجد إلا في الكنيسة، في الكتاب المقدس.
ولقد كانت الرهبنة القبطية من أهم العوامل التي أثرت في حياة القديس، إذ يقول كتاب تاريخ فلسفة العصر الوسيط: "ووفد عليه زائر كريم حدثه عن حياة الرهبان في مصر". ويذكر أغسطينوس نفسه في اعترافاته عن القديس أنطونيوس أب الرهبان The holy and perfect man "الرجل الكامل والقديس" فبكل تأكيد أصبح أنطونيوس المصري هو أستاذ أغسطينوس في التصوف المسيحي.
أما من ناحية تأملاته العميقة، وميله للرمز في تفسيره، فهو كفيلسوف قد أثرت فيه دراساته الفلسفية. وكأنه كان يتتلمذ على أيدي أساتذة مدرسة الإسكندرية في تأملهم وتفسيراتهم للكتاب المقدس وبالأخص الأستاذ الأول العلامة أوريجينوس. ولكن لا يمكن أن ننسى أن أغسطينوس قاوم بشدة تعاليم أتباع أوريجينوس لأنهم قد انحرفوا في تعاليمهم.
من ناحية الإيمان وعلاقته بالعقل، فهو يرى أن الإيمان ليس عاطفة غامضة، ولكنه قبول عقلي لحقائق إن لم تكن مدركة في ذاتها كالحقائق العلمية فهي مؤيدة بشهادة شهود جديرين بالتصديق بعلامات خارقة. وللعقل مهمة بعد الإيمان هي تفهم العقائد الدينية.
ومن ناحية الملحدين يرى أن الإلحاد جنون مطبق، ويقول أن الملحدين إنما ينكرون وجود الله بسبب شهواتهم، وإنهم على كل حال نفر يسير لا يُعتد به. ومن المؤكد أن أغسطينوس لم يشك في وجود الله طيلة حياته، إذ يقول: "إن العالم نفسه بتغيره المنظم تنظيمًا عجيبًا وبأشكاله البديعة يعلن في صمت أنه مصنوع".
ويرى أغسطينوس أن الفلسفة ما هي إلا وسيلة للسعادة، والسعادة في موضوع ما لا تتحقق إلا بأمرين: الأول هو ثبات هذا الموضوع والثاني هو كماله. وهذان الأمران لا يتحققان إلا في الله، علمنا بذلك أو لم نعلم، إذ يقول: "لقد صنعتنا لأجلك يا رب وإن قلبنا لا يزال مضطربًا حتى يطمئن إليك".
والموعظة على الجبل، التي هي خلاصة مبادئ الحياة المسيحية عرضها لنا القديس أغسطينوس في هذين الكتابين في تأملاته العميقة. لذلك فالكتاب بلغ عظمته وقوته لأنه يسجل تفسيرًا لأخطر موضوع بقلم أعظم فيلسوف مسيحي.
ولقد كتب كثيرون من مفسري الشرق والغرب في العصر الحاضر، في الموعظة على الجبل، ولكن كتابنا يحمل لونًا آخر من التفسير المصحوب بالتأمل والتعبد، هو من كتابات الآباء. ولا بد أنك سترى فارقًا كبيرًا بين كتاباتهم وكتاباتنا اليوم، وهذا يدعونا إلى اكتشاف عظمة الكنيسة التي تعيش على تراث آبائها وتقتفي آثارهم. وكما سجل أغسطينوس نفسه أن الكنيسة في آبائها وقديسيها، هي بالتأكيد الطريق الوحيد إلى التوبة والرجوع إلى المسيح.

المعرب: القمص تادرس يعقوب ملطي.
لتحميل الأجزاء الكاملة لهذة المقالة اضغط هــــــــــنا
أحدث أقدم